كنت بداخل الصيدلية في ساعات التدريب التي لا أواظب عليها كثيرا للأسف.. وبينما أمسك بدليل الأدوية لمعرفة الاسم التجاري لإحدى المواد الفعالة إذ بجلبة خارج الصيدلية، فانتبهت فإذ بسيدة في العقد الثالث من العمر أنيقة للغاية، ولفت نظري لون صبغة الشعر الغريبة التي لا تتماشى مع لون وجهها الأسمر، وكانت شبه منهارة، وتحمل صغيرتها بين ذراعيها، وتحكم لفها بغطاءٍ أبيض مزركش ومطرز، وبين تهافتها ولهفتها تخبرنا في جزع أنها أصيبت بحساسية شديدة أدت إلى تورم وجهها وأنها قادمة للتوّ من المستشفى وتود لو نعطي صغيرتها حقنة المضاد الحيوي؛ لأنهم رفضوا إعطاءها في المستشفى.. طلب منها الصيدلي أن تخرج الفتاة من الغطاء، وإذ بالسيدة المنهارة تضع أمامنا صغيرتها على الريون.. ولم تكن صغيرتها هذه سوى كلبة لولو بيضاء!!
وبعد التغلب على تأثير المفاجأة حاول الدكتور الصيدلي إفهامها أنه لا يعطي الكلاب حقناً! وأن عليها أن تلجأ إلى طبيب بيطري، وعند سماعها ذلك كادت أن تنفجر في البكاء وهي تتوسل لنا بشدة كي ننقذ صغيرتها وإلا ستفقد عقلها من الخوف!
وأمام بكائها الشديد أصابنا الارتباك.. لكنها أعلنت أنها باقية في الصيدلية، ولن ترحل إلا بعد أن نحقن صغيرتها! فبدأ الدكتور الصيدلي في إعداد الحقنة وإضافة الماء المقطر للدواء، وبينما أنا أخرج إحدى سرنجات الحقن وجدتها تهتف بي أن أحقنها بسرنجة أطفال كيلا تتألم.. أومأت برأسي، وجلست أتابع هذا الذي يجري أمامي ولا أكاد أصدقه.. وكانت المشكلة تتمثل في كيفية السيطرة على هذه الكلبة والتحكم فيها؛ لأنها بالتأكيد ستغضب وتهتاج.. لكن صاحبتها وعدتنا أنها ستمسكها جيدا ولن تفلتها من يدها.. ولمحت تردُّد الدكتور الصيدلي وهو يهز رأسه، ثم توكل على الله وحقنها..
طبعا -كما كان متوقعا- ما لبثت الكلبة أن هاجت وماجت وأخذت تنبح بعنف جذب انتباه الشارع كله لهذا السيرك الذي يدور بالداخل!.. ثم لم يستطع الصيدلي إكمال الحقنة؛ لأنها أفلتت من صاحبتها واستدارت لتعضه في يده!.. فابتعدنا عنها في خوف، وصاحبتها تمسكها وتحتضنها وتربت على رأسها في حنان وتهمس لها في أذنها حتى هدأت، رفض الصيدلي إكمال النصف الآخر من الحقنة معلنا أنه يكفيها نصف الجرعة لصغر سنها!.. ونصحها أن تكمل باقي الدواء في صورة شراب أفضل للجميع!..
اقتنعت صاحبتها بذلك، ولكنها لم ترحل بل بدأت في شرح قصة مرض "فيبي" –وهذا كان اسم الكلبة لمن يريد التعرف!- وكيف أنها استيقظت هذا الصباح لتجدها مرهقة -لا أعلم كيف!- ولما بدأت في الاستعداد للذهاب إلى عملها -السيدة وليست الكلبة طبعا!- فوجئت بوجهها قد تورَّم وصارت أذنها حمراء كالدماء -ياللهول!- فهرولت بها تاركة أشغالها وعملها إلى مستشفى الشعب، وبعد الكشف كتبوا لها هذه الروشتة.. وبدأت تسألني عن السبب في هذه الحساسية، فسألها الصيدلي عما تناولته اليوم لكنها أخبرته أنها تناولت طعامها المعتاد.. فتفتق ذهني العبقري عن فكرة وأدليت بدلوي أنه ربما تكون قرصَت من نملة أو من حشرة، وسببت لها تلك الحساسية.. فسألها الصيدلي إن كانت تعاني من القمل والبراغيث، وهنا أصاب السيدة الغضب الشديد وإذ بها تهتف: "لأ.. لأ.. لأ.. كله إلا كده!" وأمام دهشتنا أكملت: "فيبي نضيفة جدًّا جدًّا"!! فاعتذرنا لها عن هذا الخطأ الرهيب متعللين أنها زلة لسان ليس أكثر!
وبعد عرض كافة الاحتمالات الأخرى.. أخبرتنا أنها لم تنزل حتى من أسبوع لزيارة أخيها الذي يقيم عند والدتها.. ولم نفهم ما علاقتنا بمشاكلها الأسرية إلا عندما أخبرتنا أن أخاها يدعى "ميكا"!!
فأدركنا بالطبع أنها تتحدث عن أخي الكلبة وليس شقيقها! واستمرت السيدة تروي لنا وداعة كلبتها وشقاوتها، وكيف أنها حبوبة ووديعة، وأنها كادت تنهار لدى رؤيتها بهذا التورم هذا الصباح.. كل هذا وأنا أمدُّ لها يدي بالمناديل الورقية وأخفف عنها مصابها وأشاركها في مأساتها وأدعو الله أن يكتب لـ"فيبي" الشفاء العاجل! وعاد لذاكرتي كلبنا الفقيد، وأدركت أنه كان إذن متسولا متشردا إذا ما قورن بـ"فيبي" المرفهة هذه! وأدركت خطئي بعد فوات الأوان حين كنت أعامله ككلب بينما كان لا بد أن أعامله كما يليق وكما تعامل الآنسة "فيبي"!
وبدأت أربت على ظهر "فيبي" الجميلة حتى هدأت صاحبتها وتمالكت أعصابها واطمأنت على صحتها الغالية، فحملتها، وغطتها بغطائها الأنيق، ورحلت وهي تحتضنها..
بعدها بدقائق دخل أحد المرضى يطلب أحد أدوية الضغط والقلب لكنه عجز عن شراء العلبة كلها، فطلب شريطاً من كل منهما وهو يشكو حاله لنا، وكيف أن ثمن الشريطين سيقتطع من قوت أولاده.. فمن المؤكد أن هذا الرجل لا يملك "فيبي" في منزله! ولا حتى " ميكا" كذلك!.. وحمدت الله أنه لم يأتِ إلا بعد رحيلها، وإلا لأصابته نوبة قلبية في الصيدلية قبل أن يتمنى قبلها لو يصبح هو نفسه "فيبي"!
وبعد رحيله أخذت أتأمّل حال المصريين العجيب هذا.. ناس لديها "فيبي" وناس تتمنى لو صارت "فيبي"!.. ثم تردد ذلك السؤال في ذهني وأنا أحاول إخفاء الإجابة.. لماذا ما زالت المستشفى البيطري تحمل ذلك الاسم المستفز المهين "مستشفى الشعب"؟؟!!