كان المشهد رهيبا.. ساحة مليئة بمئات الآلاف من البشر جميعهم يرقصون ويغنّون لا تميز كثيرا بين الفقير والغني، المجهول والمشهور، الأبيض والأسود سوى بتنقلات الكاميرا هنا وهناك.. تارة تأتي الصورة على أمريكية بيضاء عادية يكاد يغمى عليها من شدة الفرح وتارة تأتي على الشهيرة "أوبرا وينفري" وهي ترقص وتهتف.. الكل في فرح يقفون منتظرين ظهور الرئيس الجديد أو البطل الجديد الذي اختاروه "باراك أوباما" الذي لم يخيب ظنهم، وما لبث أن خرج ليعلن أن انتصاره جاء للتغيير، وأن هذه هي الولايات المتحدة وهؤلاء هم أبناء الشعب الأمريكي.. كانوا وسيظلون كذلك.
كان الليل يغطي الولايات المتحدة حيث كان البث مباشرا بينما هنا وفي القاهرة كانت السادسة والنصف صباحا وكان على الناس أن تبدأ في الخروج لبدء يوم عمل جديد شاق وكان الشارع ممتلئا بالبشر، الصغار والكبار، الطلاب والموظفين.. الكل ينتظر أي وسيلة مواصلات ليركبها وبعد محاولات مضنية استطعت دسّ نفسي في ميكروباص وبعد أن اكتمل العدد أغلق الباب وبدأنا رحلة السير..
كعادة أي ميكروباص بدأت الثرثرة هنا وهناك وبدأت تظهر مجموعات مختلفة كل منها يناقش أحد الموضوعات المهمة الحيوية التي تسيطر حاليا على الساحة والتي تشغل تفكيرهم.. المجموعة الأولى كانت في أول صف تناقش موضوعا مؤثرا وكان الحوار يدور كالتالي.. "عمرو دياب" والله ده مفيش زيه، ده يستاهل حاجات كتيرة قوي.. لا يا عم، "عمرو" مين؟ هو فيه زي "تامر حسني"، ده "تامر" ده فظيع.. سمعت شريطه الأخير؟ شفت كليبه الجديد؟ مش ممكن لأ والبنات هتموت وهتتجنن عشانه!.. "تامر" مين؟ طب قول لي كده "تامر" عمل إيه؟ ده "حماقي" برقبته، يعرف "تامر" يعمل أغنية زي "أحلى حاجة فيكي" دي سيمفونية يا بني!.. لا برضه مفيش زي "تامر"!
ومن الصف الأول إلى الصف الأوسط كانت مجموعة جديدة يحمل أحدهم جريدة قومية ويقرأها بافتتان: "ختام المؤتمر الناجح للحزب الوطني" ليبدأ الحديث المهم.. شايف يا سيدي المؤتمرات والله قمة الديمقراطية، وكمان شايف الناس البسيطة وهي بتتكلم عادي كده مع الرئيس ولاّ الست بتاعة سوهاج يا عيني مش مصدّقة نفسها فضلت تقول له جايالك يا ريس.. لأ وفيه كلام جديد بيتقال وإصلاح.. ده بيقولوا لك فيه حاجات حققوا فيها 500% من برنامج الرئيس.. يا ابني إنت بتاكل من الكلام ده؟! دي حاجات للإعلام وبس.. لأ طبعا إنت ماشفتش الناس كانت فرحانة إزاي.. طب وهجومهم الفظيع على المعارضة واهتمامهم المبالغ فيه بـ"جمال مبارك" مفجّر الثورة؟.. عادي يعني مش له منصب مهم في الحزب.. يعني إنت شايف المؤتمر ده طلع بحاجة جديدة يعني؟!.. أمال؟ ده تاني يوم خرجت الجرائد القومية تؤكد تراجع أسعار القمح والذرة والأرز والفول والبيض والزيت والحديد.. برضه أنا باقولك ده كله كلام جرايد!
الحمد لله كان الصف الأخير يتحدث عن موضوع الساعة بجد.. مش "أوباما" فاز؟.. مبروك يا سيدي.. أهو ده اللي هينغنغنا.. يا سيدي.. طبعا مش "ماكين" اللي عامل زي "بوش".. مش فارقة كتير.. لأ فارقة، إحنا ما صدقنا "بوش" يمشي.. كلهم زي بعض.. إنت ماشفتش الناس فرحانة إزاي؟.. على إيه يا حسرة.. كفاية إنه أسود.. عادي.. وأبوه مسلم.. مش أكيد.. وأصله من كينيا.. ما هو برضه أمريكاني!
التقط أصحاب الصف الأول الموضوع ليصيح واحد منهم في ذكاء نادر: أيوه أهو "أبوما" ده قريب "تامر حسني" وصوته حلو قوي!!.. "أبوما" مين إنت هتهجس؟.. لا يا عم إنت وهو.. ده اسمه "أوباما" ده أمريكاني ومشهور قوي.. أهو ده بقى الملحن الجديد اللي هيستعين بيه "عمرو دياب" في أغنيته الجديدة! ليدخل الصف الثاني في الحوار.. لا يا ابني إنت وهو ده الخبير اللي هيستعين بيه الحزب الوطني عشان ينفّذ باقي برنامج السيد الرئيس!
لغاية كده وبعد أن جاءني شلل رعاش ومرارتي اتفقعت وحمدت الله أن جاءت المحطة فنزلت من الميكروباص وأنا على يقين بأنه إذا جاء التغيير لأمريكا على يد "أوباما" وأن هذه هي الولايات المتحدة وهؤلاء هم الشعب الأمريكي.. كانوا وسيظلون كذلك، فإنه هؤلاء هم الشعب المصري.. كانوا وسيظلون كذلك.. مع الأسف!