أسرار تاجر خردة
إنتصار سليمان
الخردة كنز لمن يقدرها ويستطيع التعامل معها
كلما ذكرت كلمة "تاجر خردة" رادفها الناس في أذهانهم بأنه ذلك الشخص الذي يصبح مليونيرا في مدة وجيزة، ويتمكن من اختراق صفوف الأثرياء، غير أن تلك الصورة السينمائية التي تقدم على مدار ساعات قليلة ضمن وجبات ثقافة الكسل والجوائز التي تعمقها التلفزيونات العربية لدى مشاهديها تخلو من معظم الحقيقة.
فالواقع يقول: إن تلك المهنة شاقة، والتراكم المالي يأخذ فيها سنوات، وله أداة رئيسية هي السعي المستمر بلا كلل أو حتى نوبات إحباط؛ فتاجر الخردة يبدأ حياته من الشارع، حيث يكون صبيًّا يتعلم أسرار العمل، ثم يتدرج حتى يصبح صاحب تجارة بعد أن يجوب الأسواق طولا وعرضا.
ولعل نموذج الشاب فتحي إسماعيل عبد الرحمن - 37 عاما، تاجر خردة بمدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية (شرق مصر)- يضرب لنا بكثير من العبر حتى نتأمل هذه المهنة؛ فهو يقف مزهوًّا بتجارته في محل لا تجد لقدمك مكانا فيه، يتطلع إلى ما لديه من بقايا أجهزة كهربائية ومسامير وأشياء معدنية قديمة لا تجد لها قيمة إلا في محله، ينتظر اللحظة التي تزيد هذه البضاعة، أو تجد لها الزبون الذي يقدرها ويعرف قيمتها.
ولأنها تجارته التي عشقها منذ الصغر؛ فهو يفهم تفاصيلها وكل أسرارها؛ فالخردة -كما يقول فتحي- هي عالم واسع وتجارة ليس لها حدود؛ حيث تضم كل بقايا المصانع بداية من الطائرات والدبابات ومخلفات الجيش والسيارات، ومرورًا بمخلفات المنازل سواء من الأجهزة الكهربائية وغيرها، وانتهاء بالمسامير الصغيرة مختلفة الأشكال والأحجام التي تدخل في صناعة كل شيء.
فلسفة الربح
وتقوم فلسفة الربح الوفير لهذه التجارة على منطق بسيط؛ هو تحويل سلعة معدومة القيمة لصاحبها إلى عالية القيمة لدى طرف آخر يحتاج هذه الخردة ليعيد تصنيعها وتدويرها أو تصليحها؛ فقد تلجأ ربة المنزل لإلقاء طبق من البلاستيك في القمامة إذا كسر، لكنه يمثل مغنما لدى تاجر الخردة حين يبيعه لمصانع تدوير البلاستيك التي تطحن الطبق وتحوله لسلعة جديدة.
ورغم الاتساع لتلك التجارة الخردة فإنها تكاد تكون مغلقة على أصحابها في مصر؛ بمعنى أن من يعمل فيها يكون معروفًا لدى باقي التجار؛ لأنه عادة يكون أحد صبيانهم الصغار الذين استقلوا بتجارتهم بموافقتهم وتحت رعايتهم، أو أن يكون ابن أحد تجار الخردة الذين ورثوا العمل عن عائلاتهم.
هذا الأمر ليس مقصورًا على السوق المصرية فقط؛ بل إنه نمط يتنامى في بعض الدول العربية خاصة في الشام كالأردن وسوريا وفلسطين والعراق؛ حتى أننا نسمع هناك عما يسمى "عائلات الخردة"، غير أن ذلك لا ينفي دخول تجار خردة لا يكونون امتدادًا لأحد أو لهم علاقات بالسوق، ولكن الأمر حينها يصبح صعبا.
البداية.. في الصغر
البداية في هذه التجارة لا بد أن تكون من الصغر، كما يقول فتحي الذي عمل منذ سن الخامسة عشرة صبيا لأحد تجار الخردة، وانحصر عمله في أخذ عربة يجرها حمار (عربة كارو)، ومعه ميكرفون صغير، ويجوب شوارع مدينته مناديًا على الناس ليبيعوا أي مخلفات حديدية أو بلاستيكية في منازلهم.
وظل هذا الشاب يعمل بهذه الطريقة لمدة 5 سنوات متواصلة، تعلم خلالها كيف يشتري البضاعة من الزبون بأقل الأسعار، وأحيانا بدون مقابل مادي، وكذلك التفريق بين السلعة الرديئة والجيدة، كما تعلم فرز البضاعة بعد أن يأتي بها للمحل؛ حيث عرف أي قطع الخردة لها ثمن، وكيفية بيعها في الأسواق الشعبية.
فعلى سبيل المثال شراء موتور غسالة قديمة غير صالح للاستخدام يكون بهدف الاستفادة من خام الألمنيوم داخله، غير أنه لو كانت هذه الآلة تحتاج لتصليح، فيتم القيام بذلك، ثم تباع على أنها سليمة بأضعاف أضعاف سعرها.
من عامل لصاحب عمل
بدأ فتحي يفكر في تجاوز مرحلة الصبي فقرر العمل في جمع الخردة القديمة لحسابه، وبيعها للتاجر الذي يعمل معه، ويروي هذا الشاب -الذي رفض مطلقًا أن نصوره- أنه كان يخرج، وليس معه غير ميكرفون ودراجة خلفها صندوق لشراء البضاعة القديمة، كما تعلم الذهاب إلى المصانع لشراء خردتها، ويعيد بيعها إلى التجار الكبار.
وكأي مشروع يبدأ صغيرًا ثم ينمو مع الأيام، خاصة إذا توافرت الإرادة والإمكانيات المادية؛ فقد تمكن فتحي من شراء محل، واستقل عن التاجر الذي يعمل معه؛ بل أصبح يقوم بدور البائع والمشتري بدون الوسيط (تاجر تصليح القديم)، فقد يحالفه الحظ في شراء ثلاجة قديمة بحوالي 100 جنيه مصري (الدولار= 5.80 جنيهات مصرية)، فيصلحها لحسابه ويعرضها للبيع في محله بمبلغ لا يقل عن 500 جنيه.
كما بدأ يستعين ببعض الصبية للعمل معه في جمع الخردة وفرزها، والمعاونة في بيعها بالسوق، وأخيرا تمكن من تأجير قطعة أرض قريبة لتحويلها إلى مخزن.
مكونات مشروع الخردة
وإذا كان فتحي قد بدأ المهنة صغيرا وتعلم أسرارها مع الأيام وطرق التسويق وفرز البضاعة؛ فالوضع مختلف مع السيد جاد عبد التواب 42 عاما الذي ورث المهنة منذ أكثر من 30 عاما عن أبيه؛ فطور المحل الصغير ليصبح وكالة كبيرة.
ووفقا لعبد التواب فيختلف مشروع الخردة عن أي مشروع آخر؛ فهو ليس محلا وبضاعة تباع فقط، وإنما مهارة تاجر، ورزق من الله الذي يوفق في شراء الخردة وبيعها، وتحتاج هذه التجارة إلى محل به مخزن كبير، وعمال يجوبون الشوارع بحثا عن الخردة، وآخرين لفرزها وبيعها في الأسواق.
ويشتري عبد التواب بضاعة التجار الصغار الذين لا يستطيعون تصريف المعادن بصفة خاصة؛ فمثلا يتم شراء كيلو الحديد بجنيه مصري، ثم يباع بـ2 إلى 5 جنيهات حسب نوعه وحالته، أما النحاس فيتم شراؤه بـ9 جنيهات للكيلو، وبيعه بـ12 إلى 13 جنيها، ويعتبر خام الألمنيوم الأعلى سعرًا؛ حيث يتم شراؤه بـ10 جنيهات، وبيعه بـ15 إلى 20 جنيها للكيلو... إلخ.
ولكل قطعة في الخردة زبونها -كما يقول عبد التواب- فقطعة الأثاث (كرسي وحجرة نوم ومنضدة...) يطلبها تجار بيع الأثاث القديم، ونحن لديننا التجار الذين نتعامل معهم، وبمجرد وصول قطعة الأثاث يتم نقلها إلى محل أحدهم، ولقطع غيار الأجهزة الكهربائية زبونها، وهو عادة تاجر تصليح هذه الأدوات، أما خردة السيارات فزبونها الميكانيكي وسمكري السيارات. وقد تجد هذه البضاعة زبونها بعد شرائها بلحظات، وقد تظل حتى نجمع كميات كبيرة منها ونبيعها للمصانع التي تشتريها وتعيد صناعتها.
حلمه أن يكون حوتا!
وإذا كان حلم أي تاجر صغير محلا كبيرا ونمو تجارته؛ فحلم عبد التواب أن يصبح "حوتا" من الحيتان الكبيرة -على حد تعبيره- التي تدخل مزادات الحكومة، وتعقد صفقات بالملايين مثل مزاد هيئة السكك الحديدية التي تبيع عربات القطارات القديمة وقضبان السكك الحديدة، أو مزادات الجيش لشراء مخلفات الحرب والقطع الحربية غير الصالحة للاستخدام... إلخ.
غير أن هذه المهنة تواجهها مشكلات جمة، خاصة في منطقتنا العربية، وأبرزها على الإطلاق هيمنة الحيتان عليها؛ فهناك بعض السلع التي يهيمن عليها حيتان لا يسمحون للأسماك الصغيرة من التجار بالتنفس في السوق.. اللهم إلا من خلالهم.
كما أن انغلاق العمل في تجارة الخردة على عائلات معينة أو من لهم علاقات أو عملوا بهذه التجارة يجعل هذه المهنة تتآكل مع مرور الأيام ولا تتطور بالشكل الكافي، لا سيما أن الأجيال الجديدة ما زالت تعتبر تجارة الخردة مهنة درجة "تانية"، بسبب هيمنة غير المتعلمين على العمل فيها.
إننا أمام مهنة لها شروط خاصة؛ فمن أرادها فعليه بالصبر والجلد، ومن أراد أن ينمو فيها فعليه بالسعي؛ فله كل الطريق.